إعداد عبد الله نادية لحلوح. مدريد اسبانيا :
تدفقت شجون وأحزان ومواعظ ودروس لدى وصولي إلى مدينة إشبيلية عاصمة الشاعر الرقيق وفارس هذه الأرض المعتمد بن عباد.
وصلت إلى هذه المدينة في رحلة عمل قصيرة، وهي ليست المرة الأولى التي أزور فيها الجنوب الإسباني والذي كان في يوم من الأيام مقرا لأعظم دولة عربية/إسلامية أقيمت في أوروبا وساهمت في نهضتها واستمرت بشكل أو بآخر سبعمائة وإحدى وثمانين سنة بالتمام والكمال منذ وطئت قدم طارق بن زياد أرض الجزيرة، كما كان يسميها العرب عام 711(ميلادي) إلى أن وقف آخر ملوك العرب أبو عبد الله الصغير عام 1492 على رأس جبل'سيّرا نيفادا'، والتفت خلفه ملقيا نظرة الوداع على مدينة غرناطة بعد أن وقع وثيقة الإستسلام لفرناندو وايزابيلا ثم تنهد تنهيدة عميقة وأجهش في البكاء، فقالت له أمه:
إبك مثل النساء مُلكا مُضاعا
لم تحافـظْ عليه مثل الرجال
وما إن تصل قدمي هذه البقعة من ديار الأندلس إلا ويزيد تخوفي على أندلس ثانية تعيش تقريبا نفس تجربة الأندلس الأولى ولا تكاد العين تخطئ رؤية الشبه بين ملوك الطوائف آنذاك وملوك الطوائف هذه الأيام. أحاول أن أضرب صفحا عما حدث هنا فيداهمني التاريخ من كل جانب
وأجد نفسي مصابا بهوس تاريخي لا
ينفك يضرب كوابيسه عليّ في الليل والنهار، في الفندق والشارع، في المتحف والآثار التاريخية التي تطوقك في كل زاوية وكل شارع.
فهذا هو الوادي الكبير التي كانت تتهادى فيه سفن ابن عباد. وربما في هذه البقعة أقسم على زوجته الرميكية ألا تطأ الأرض إلا على المسك والكافور والريحان. وهذا هو برج المراقبة الذهبي (توري دي أورو) الذي استخدمه الموحدون كبرج مراقبة، وربما في هذه الحديقة القريبة من النهرعلق المعتضد والد المعتمد رؤوس معارضيه عندما جزّها وتركها مرفوعة على العيدان عبرة للآخرين، وانظر هنا تشاهد برج الخيرالدا التي كانت أصلا مئذنة لأكبر مساجد إشبيلة.
وتمنيت لحظة أنني لم أقرأ التاريخ ولم أتعلق منذ الصبا بشعر ابن عباد وقصائده الموجعة أيام الأسر ولم أقرأ شيئا من 'نفح الطيب' للمقري ولا أعرف اسم 'الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة' لإبن بسام.
بين الفونسو وابن عباد
حتى الفندق الذي أسكن فيه يحمل اسم الفونسو. وهذا الاسم يصب مزيدا من الخل في الجرح... وكيف لي أن أعرض عن اسم الفونسو السادس الذي بدأ العد التنازلي للوجود العربي الإسلامي في عهده بعد أن استولى على مدينة طليطلة (توليدو) عام 1085 فما كان من ملوك الطوائف، وعددهم يربو على العشرين (تقريبا نفس عدد ملوك الطوائف اليوم) إلا أن بدأوا يرسلون له الجزية صاغرين واتقاء لشره ومن بينهم أمير إشبيلية الفارس المقدام المعتمد بن عباد.
كان المعتمد قد صمم أن يوحد أكبر عدد من الممالك حتى ولو بالقوة لإعداد العدة لاسترداد طليطلة ومحاربة الفونسو الذي فعلاً وحد الممالك الإسبانبة الثلاث بالقوة : قشتاله وأرغون وجيليقية وبدأ يحشد القوى لمتابعة انتصاراته ضد المسلمين وأصدر البابا الاسكندر الثاني مرسوما بابويا يمنح الغفران لكل من يهب لمحاربة الكفار (يقصد المسلمين).
ثم تابع خطاه البابا غريغوري السابع فدعا جميع مسيحيي أوروبا للانضمام للحرب ووعدهم بمنحهم الغنائم التي يستولون عليها وبالفعل أثمرت هذه الجهود بالاستيلاء على طليطلة عاصمة الدولة القوطية التي سبقت وصول المسلمين إلى ديار الأندلس.
تأخر المعتمد في إرسال الجزية حيث كان مشغولا بمحاربة ابن صمادح أمير المُريّة ضمن خطته في توحيد ممالك الطوائف. فبعث الفونسو رسالة لابن عباد يقرعه ويهدده لتأخره بدفع الجزية وحمل الرسالة إليه رسول يهودي ومعه خمسمائة فارس في استعراض فظ للقوة. ومن شروط الفونسو المذلة التي عرضها على المعتمد أن يدفع الجزية مضاعفة، وأن تأتي زوجته لتضع مولودها في صحن المسجد الكبير بقرطبة وأن تستضاف في مدينة الزهراء بغربي قرطبة لحين موعد الميلاد.
وعندما تردد المعتمد بقبول الشروط المذلة أغلظ حامل الرسالة القول له فما كان من المعتمد إلا أن ضربه بمحبرة كانت في متناول يده فشج رأسه وأنزل دماغه في حلقه وصلبه منكوسا وأوعز لقادة الجيش بقتل الفرسان الخمسمائة والإبقاء على ثلاثة فقط لحمل الجواب للفونسو الذي يشمل رفض الإملاءات. فاستشاط الفونسو غضبا وأرسل إليه خبرا يهدده بالوصول إليه في إشبيلية نفسها.
أحس المعتمد أن الحرب الشاملة لا محال قادمة وانه غير قادر بمفرده أن يجابه قوات الفونسو الموحدة والتي تستند إلى مخزون هائل من العدة والعدد من أوروبا المنضوية تحت سلطة البابوية.
فجمع المعتمد مستشاريه وقال لهم ماذا ترون، فأشاروا عليه بالاستنجاد بملك المغرب الفارس يوسف بن تاشفين زعيم دولة المرابطين وعاصمتها مراكش والممتدة إلى شرقي الجزائر. فانتدب المعتمد أكبر ثلاثة قضاة: قاضي بطليوس وقاضي قرطبة وقاضي غرناطة ووضع على رأس الوفد وزيره أبا بكر بن زيدون الشاعر والكاتب المعروف، وفوضه بإبرام أي اتفاق يراه مناسبا.
لم يوافق بعض مستشاري المعتمد على هذ ا الرأي وحذروه من مغبة هذه الخطوة قائلين 'إن المُلـك عقيم ولا يجتمع سيفان في غمد واحد' فاجاب بن عباد بكلمات سارت مثلا في مشارق البلاد ومغاربها: 'رعي الجمال خير من رعي الخنازير' إذ إنه يفضل أن يتحالف مع إبن تاشفين وينتصر على الأعداء حتى لو انقلب عليه وبعثه راعيا للجمال في صحراء المغرب على أن يصبح عبدا ذليلا للفونسو.
معركة الزلاقة
استجاب يوسف بن تاشفين للطلب وبدأ يجهز جيوشه الجرارة لاجتياز المضيق فبعث الفونسو برسالة يحذره من مغبة الدخول إلى أرض الجزيرة لأنه لن يعود إلا بالهزيمة. طلب ابن تاشفين من كاتبه أن يرد على رسالة الفونسو فكتب ردا مطولا لم يرق ليوسف بن تاشفين. فأخذ رسالة الفونسو نفسها وكتب على ظهرها 'الجواب ستراه دون أن تقرأه' فارتعدت فرائص الفونسو خوفا لما تحمله الرسالة من ثقة بالنفس. ثم ألحقه برسالة ثانية قائلا أمامك اختيار واحد من ثلاث: الإسلام أوالجزية أو الحرب ثم أرسل له رسالة ثالثة تقول: 'بلغنا يا أذفونش (الاسم الذي أطلقه العرب على الفونسو) أنك تتمنى لو كان لديك سفن لتعبر إلينا فها نحن عبرنا إليك وجمع الله بيننا وبينك وسترى عاقبة دعائك'.
قسم الفونسو جيشه إلى قسمين وأرسل واحدا لمحاصرة إشبيلية من جهة الغرب وآخر من جهة الشرق ليضع جيش المعتمد بين فكي كماشة. وكانت جيوش ابن تاشفين في طريقها إلى الميدان لكنها تباطأت قليلا ولا يتفق المؤرخون هل حدث ذلك عن عمد أم لا، إذ أن جيوش الفونسو كادت تقضي على جيش ابن عباد وقد أصيب نفسه بعدد من الإصابات وعقرت تحته ثلاث أفراس لكنه قاتل بشجاعة وصبر إلى أن اشتبك جيش ابن تاشفين من الملثمين الشجعان مع قوات الفونسو مما رفع معنويات فلول جيش ابن عباد فأعاد تنظيم الصفوف وأمعن الجيشان قتلا في قوات الفونسو حتى إن مقاتلا تخطى ضربة سيف الفونسو وركب خلفه وطعنه بخنجر في فخذه ظل يعرج منها طيلة حياته.
وانهزم جيش القشتاليين شر هزيمة في معركة تدعى الزلاقة التي وقعت سنة 1086، وهناك نصب تذكاري في موقع المعركة تخليدا لمن سقطوا فيها يتعمد المرشد السياحي أن يذكر تلك المعركة على اعتبار أنها كانت نقطة التحول في سلسة الحروب التي يسميها الإسبان 'لا ريكونكيستا' أو حروب الاسترداد.
استقبل ابن عباد ضيفه في أحد قصوره غربي النهر وأغدق في إكرامه، فتعجب ابن تاشفين من حياة الترف والرخاء التي يعيشها أبناء الجزيرة، وكأنه أضمر شيئا ما. وبالفعل فبدل استثمار معركة الزلاقة وتحويلها إلى نصر استراتيجي يعيد توحيد الممالك والتقدم نحو طليطلة حصل العكس تماما.
أبقى يوسف بن تاشفين جزءا من قواته في الأندلس وبدأ باحتلال الممالك الأندلسية وضمها لدولة المرابطين وقام باعتقال المعتمد نفسه عام 1091 وإرساله إلى سجن في أغمات قرب مراكش بقي فيه حتى مات.
الانهيار
بعد انهيار دولة المرابطين خلفتها دولة الموحدين، والذين لم يستطيعوا حماية مملكتهم وخاصة بعد قيام فرناندو الثالث بتوحيد جهود الممالك المسيحية الأربعة قشتالة وأرغون وليون والبرتغال فهزم سلطان إشبيليا محمد الثالث الملقب بالناصر عام 1212.
بعد تلك المعركة الحاسمة بدأ ينفرط عقد دولة الموحدين فسقطت قرطبة عام 1236 وتبعتها مرسية 1246 ثم ضرب فرناندو الثالث نفسه طوقا على إشبيلية وأبقاها تحت الحصار مدة خمسة عشر شهرا، إلا أن استسلمت ودخلها فرناندو في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) عام 1248 وكان عدد سكانها آنذاك مائتي ألف إنسان وبها مائة مسجد. وهكذا طويت صفحة الممالك الأندلسية ولم يبق إلا مملكة غرناطة والتي لم تعد تشكل أي تهديد حقيقي للقوة الإسبانية المتعاظمة إلى أن استسلمت عام 1492.
سبتة ومليلة
ولكن هل من ضرورة لإعادة سرد ذلك التاريخ القديم؟ والجواب بالتأكيد هناك ضرورة ملحة لسببين أساسيين. أولا أن هناك مدينتين مغربيتين، سبتة ومليلة، ما زالتا محتلتين منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر وملف المدينتين ما زال مفتوحا.
ويشكل تحرير المدينتين قاسما مشتركا بين كافة الحكومات والأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية في المغرب. وإذا كانت هذه المسألة لا تظهر على شاشة رادار الجامعة العربية والقوى السياسية في المشرق العربي إلا أنها قضية حساسة وهامة بالنسبة لاتحاد المغرب العربي ولا بد أن تحسم مسألة المدينتين وبعض الجزر الصغيرة غير المأهولة في يوم من الأيام وذلك لتصحيح العلاقة بين إسبانيا والعرب والتخلص تماما من رواسب الماضي.
أما السبب الثاني فهو ما يجري في فلسطين حاليا. إن من يقرأ تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس ويتابع كيف تمت هزيمتهم واحدا تلو الآخر لا يملك إلا أن يجد شيئا من المقارنة مع ما يجري اليوم.
فقد انهمك ملوك الطوائف في حروب مع بعضهم البعض متحالفين في كثير من الحالات مع أعدائهم في الشمال لينتصروا على إخوتهم وأبناء عمومتهم وأبناء دينهم في الجنوب. فما كان إلا أن التهمتهم نيران الفونسو السادس وفرناندو الثالث والفونسو التاسع وصولا إلى استسلام أبو عبد الله الصغير أميرغرناطة لفرناندو وايزابيلا وطرد ما تبقى من العرب أو تنصيرهم بالقوة.
وقد يأتي يوم نبكي على آثار العرب في فلسطين كما بكى عديد من الكتاب على آثار العرب في الأندلس من 'أبو البقاء الرندي' صاحب قصيدة رثاء البلدان وأمير الشعراء أحمد شوقي ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم.
ولكن منذ متى أعاد البكاء أوطانا أو حرر أسرى أو استرد كرامة! وقديما قالت العرب: الذكي من يتعظ من أخطائه هو، والأكثر ذكاء من يتعظ من أخطاء غيره، والمصيبة في من لا يتعظ لا من أخطاء غيره ولا من أخطائه هو.
تدفقت شجون وأحزان ومواعظ ودروس لدى وصولي إلى مدينة إشبيلية عاصمة الشاعر الرقيق وفارس هذه الأرض المعتمد بن عباد.
وصلت إلى هذه المدينة في رحلة عمل قصيرة، وهي ليست المرة الأولى التي أزور فيها الجنوب الإسباني والذي كان في يوم من الأيام مقرا لأعظم دولة عربية/إسلامية أقيمت في أوروبا وساهمت في نهضتها واستمرت بشكل أو بآخر سبعمائة وإحدى وثمانين سنة بالتمام والكمال منذ وطئت قدم طارق بن زياد أرض الجزيرة، كما كان يسميها العرب عام 711(ميلادي) إلى أن وقف آخر ملوك العرب أبو عبد الله الصغير عام 1492 على رأس جبل'سيّرا نيفادا'، والتفت خلفه ملقيا نظرة الوداع على مدينة غرناطة بعد أن وقع وثيقة الإستسلام لفرناندو وايزابيلا ثم تنهد تنهيدة عميقة وأجهش في البكاء، فقالت له أمه:
إبك مثل النساء مُلكا مُضاعا
لم تحافـظْ عليه مثل الرجال
وما إن تصل قدمي هذه البقعة من ديار الأندلس إلا ويزيد تخوفي على أندلس ثانية تعيش تقريبا نفس تجربة الأندلس الأولى ولا تكاد العين تخطئ رؤية الشبه بين ملوك الطوائف آنذاك وملوك الطوائف هذه الأيام. أحاول أن أضرب صفحا عما حدث هنا فيداهمني التاريخ من كل جانب
وأجد نفسي مصابا بهوس تاريخي لا
ينفك يضرب كوابيسه عليّ في الليل والنهار، في الفندق والشارع، في المتحف والآثار التاريخية التي تطوقك في كل زاوية وكل شارع.
فهذا هو الوادي الكبير التي كانت تتهادى فيه سفن ابن عباد. وربما في هذه البقعة أقسم على زوجته الرميكية ألا تطأ الأرض إلا على المسك والكافور والريحان. وهذا هو برج المراقبة الذهبي (توري دي أورو) الذي استخدمه الموحدون كبرج مراقبة، وربما في هذه الحديقة القريبة من النهرعلق المعتضد والد المعتمد رؤوس معارضيه عندما جزّها وتركها مرفوعة على العيدان عبرة للآخرين، وانظر هنا تشاهد برج الخيرالدا التي كانت أصلا مئذنة لأكبر مساجد إشبيلة.
وتمنيت لحظة أنني لم أقرأ التاريخ ولم أتعلق منذ الصبا بشعر ابن عباد وقصائده الموجعة أيام الأسر ولم أقرأ شيئا من 'نفح الطيب' للمقري ولا أعرف اسم 'الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة' لإبن بسام.
بين الفونسو وابن عباد
حتى الفندق الذي أسكن فيه يحمل اسم الفونسو. وهذا الاسم يصب مزيدا من الخل في الجرح... وكيف لي أن أعرض عن اسم الفونسو السادس الذي بدأ العد التنازلي للوجود العربي الإسلامي في عهده بعد أن استولى على مدينة طليطلة (توليدو) عام 1085 فما كان من ملوك الطوائف، وعددهم يربو على العشرين (تقريبا نفس عدد ملوك الطوائف اليوم) إلا أن بدأوا يرسلون له الجزية صاغرين واتقاء لشره ومن بينهم أمير إشبيلية الفارس المقدام المعتمد بن عباد.
كان المعتمد قد صمم أن يوحد أكبر عدد من الممالك حتى ولو بالقوة لإعداد العدة لاسترداد طليطلة ومحاربة الفونسو الذي فعلاً وحد الممالك الإسبانبة الثلاث بالقوة : قشتاله وأرغون وجيليقية وبدأ يحشد القوى لمتابعة انتصاراته ضد المسلمين وأصدر البابا الاسكندر الثاني مرسوما بابويا يمنح الغفران لكل من يهب لمحاربة الكفار (يقصد المسلمين).
ثم تابع خطاه البابا غريغوري السابع فدعا جميع مسيحيي أوروبا للانضمام للحرب ووعدهم بمنحهم الغنائم التي يستولون عليها وبالفعل أثمرت هذه الجهود بالاستيلاء على طليطلة عاصمة الدولة القوطية التي سبقت وصول المسلمين إلى ديار الأندلس.
تأخر المعتمد في إرسال الجزية حيث كان مشغولا بمحاربة ابن صمادح أمير المُريّة ضمن خطته في توحيد ممالك الطوائف. فبعث الفونسو رسالة لابن عباد يقرعه ويهدده لتأخره بدفع الجزية وحمل الرسالة إليه رسول يهودي ومعه خمسمائة فارس في استعراض فظ للقوة. ومن شروط الفونسو المذلة التي عرضها على المعتمد أن يدفع الجزية مضاعفة، وأن تأتي زوجته لتضع مولودها في صحن المسجد الكبير بقرطبة وأن تستضاف في مدينة الزهراء بغربي قرطبة لحين موعد الميلاد.
وعندما تردد المعتمد بقبول الشروط المذلة أغلظ حامل الرسالة القول له فما كان من المعتمد إلا أن ضربه بمحبرة كانت في متناول يده فشج رأسه وأنزل دماغه في حلقه وصلبه منكوسا وأوعز لقادة الجيش بقتل الفرسان الخمسمائة والإبقاء على ثلاثة فقط لحمل الجواب للفونسو الذي يشمل رفض الإملاءات. فاستشاط الفونسو غضبا وأرسل إليه خبرا يهدده بالوصول إليه في إشبيلية نفسها.
أحس المعتمد أن الحرب الشاملة لا محال قادمة وانه غير قادر بمفرده أن يجابه قوات الفونسو الموحدة والتي تستند إلى مخزون هائل من العدة والعدد من أوروبا المنضوية تحت سلطة البابوية.
فجمع المعتمد مستشاريه وقال لهم ماذا ترون، فأشاروا عليه بالاستنجاد بملك المغرب الفارس يوسف بن تاشفين زعيم دولة المرابطين وعاصمتها مراكش والممتدة إلى شرقي الجزائر. فانتدب المعتمد أكبر ثلاثة قضاة: قاضي بطليوس وقاضي قرطبة وقاضي غرناطة ووضع على رأس الوفد وزيره أبا بكر بن زيدون الشاعر والكاتب المعروف، وفوضه بإبرام أي اتفاق يراه مناسبا.
لم يوافق بعض مستشاري المعتمد على هذ ا الرأي وحذروه من مغبة هذه الخطوة قائلين 'إن المُلـك عقيم ولا يجتمع سيفان في غمد واحد' فاجاب بن عباد بكلمات سارت مثلا في مشارق البلاد ومغاربها: 'رعي الجمال خير من رعي الخنازير' إذ إنه يفضل أن يتحالف مع إبن تاشفين وينتصر على الأعداء حتى لو انقلب عليه وبعثه راعيا للجمال في صحراء المغرب على أن يصبح عبدا ذليلا للفونسو.
معركة الزلاقة
استجاب يوسف بن تاشفين للطلب وبدأ يجهز جيوشه الجرارة لاجتياز المضيق فبعث الفونسو برسالة يحذره من مغبة الدخول إلى أرض الجزيرة لأنه لن يعود إلا بالهزيمة. طلب ابن تاشفين من كاتبه أن يرد على رسالة الفونسو فكتب ردا مطولا لم يرق ليوسف بن تاشفين. فأخذ رسالة الفونسو نفسها وكتب على ظهرها 'الجواب ستراه دون أن تقرأه' فارتعدت فرائص الفونسو خوفا لما تحمله الرسالة من ثقة بالنفس. ثم ألحقه برسالة ثانية قائلا أمامك اختيار واحد من ثلاث: الإسلام أوالجزية أو الحرب ثم أرسل له رسالة ثالثة تقول: 'بلغنا يا أذفونش (الاسم الذي أطلقه العرب على الفونسو) أنك تتمنى لو كان لديك سفن لتعبر إلينا فها نحن عبرنا إليك وجمع الله بيننا وبينك وسترى عاقبة دعائك'.
قسم الفونسو جيشه إلى قسمين وأرسل واحدا لمحاصرة إشبيلية من جهة الغرب وآخر من جهة الشرق ليضع جيش المعتمد بين فكي كماشة. وكانت جيوش ابن تاشفين في طريقها إلى الميدان لكنها تباطأت قليلا ولا يتفق المؤرخون هل حدث ذلك عن عمد أم لا، إذ أن جيوش الفونسو كادت تقضي على جيش ابن عباد وقد أصيب نفسه بعدد من الإصابات وعقرت تحته ثلاث أفراس لكنه قاتل بشجاعة وصبر إلى أن اشتبك جيش ابن تاشفين من الملثمين الشجعان مع قوات الفونسو مما رفع معنويات فلول جيش ابن عباد فأعاد تنظيم الصفوف وأمعن الجيشان قتلا في قوات الفونسو حتى إن مقاتلا تخطى ضربة سيف الفونسو وركب خلفه وطعنه بخنجر في فخذه ظل يعرج منها طيلة حياته.
وانهزم جيش القشتاليين شر هزيمة في معركة تدعى الزلاقة التي وقعت سنة 1086، وهناك نصب تذكاري في موقع المعركة تخليدا لمن سقطوا فيها يتعمد المرشد السياحي أن يذكر تلك المعركة على اعتبار أنها كانت نقطة التحول في سلسة الحروب التي يسميها الإسبان 'لا ريكونكيستا' أو حروب الاسترداد.
استقبل ابن عباد ضيفه في أحد قصوره غربي النهر وأغدق في إكرامه، فتعجب ابن تاشفين من حياة الترف والرخاء التي يعيشها أبناء الجزيرة، وكأنه أضمر شيئا ما. وبالفعل فبدل استثمار معركة الزلاقة وتحويلها إلى نصر استراتيجي يعيد توحيد الممالك والتقدم نحو طليطلة حصل العكس تماما.
أبقى يوسف بن تاشفين جزءا من قواته في الأندلس وبدأ باحتلال الممالك الأندلسية وضمها لدولة المرابطين وقام باعتقال المعتمد نفسه عام 1091 وإرساله إلى سجن في أغمات قرب مراكش بقي فيه حتى مات.
الانهيار
بعد انهيار دولة المرابطين خلفتها دولة الموحدين، والذين لم يستطيعوا حماية مملكتهم وخاصة بعد قيام فرناندو الثالث بتوحيد جهود الممالك المسيحية الأربعة قشتالة وأرغون وليون والبرتغال فهزم سلطان إشبيليا محمد الثالث الملقب بالناصر عام 1212.
بعد تلك المعركة الحاسمة بدأ ينفرط عقد دولة الموحدين فسقطت قرطبة عام 1236 وتبعتها مرسية 1246 ثم ضرب فرناندو الثالث نفسه طوقا على إشبيلية وأبقاها تحت الحصار مدة خمسة عشر شهرا، إلا أن استسلمت ودخلها فرناندو في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) عام 1248 وكان عدد سكانها آنذاك مائتي ألف إنسان وبها مائة مسجد. وهكذا طويت صفحة الممالك الأندلسية ولم يبق إلا مملكة غرناطة والتي لم تعد تشكل أي تهديد حقيقي للقوة الإسبانية المتعاظمة إلى أن استسلمت عام 1492.
سبتة ومليلة
ولكن هل من ضرورة لإعادة سرد ذلك التاريخ القديم؟ والجواب بالتأكيد هناك ضرورة ملحة لسببين أساسيين. أولا أن هناك مدينتين مغربيتين، سبتة ومليلة، ما زالتا محتلتين منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر وملف المدينتين ما زال مفتوحا.
ويشكل تحرير المدينتين قاسما مشتركا بين كافة الحكومات والأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية في المغرب. وإذا كانت هذه المسألة لا تظهر على شاشة رادار الجامعة العربية والقوى السياسية في المشرق العربي إلا أنها قضية حساسة وهامة بالنسبة لاتحاد المغرب العربي ولا بد أن تحسم مسألة المدينتين وبعض الجزر الصغيرة غير المأهولة في يوم من الأيام وذلك لتصحيح العلاقة بين إسبانيا والعرب والتخلص تماما من رواسب الماضي.
أما السبب الثاني فهو ما يجري في فلسطين حاليا. إن من يقرأ تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس ويتابع كيف تمت هزيمتهم واحدا تلو الآخر لا يملك إلا أن يجد شيئا من المقارنة مع ما يجري اليوم.
فقد انهمك ملوك الطوائف في حروب مع بعضهم البعض متحالفين في كثير من الحالات مع أعدائهم في الشمال لينتصروا على إخوتهم وأبناء عمومتهم وأبناء دينهم في الجنوب. فما كان إلا أن التهمتهم نيران الفونسو السادس وفرناندو الثالث والفونسو التاسع وصولا إلى استسلام أبو عبد الله الصغير أميرغرناطة لفرناندو وايزابيلا وطرد ما تبقى من العرب أو تنصيرهم بالقوة.
وقد يأتي يوم نبكي على آثار العرب في فلسطين كما بكى عديد من الكتاب على آثار العرب في الأندلس من 'أبو البقاء الرندي' صاحب قصيدة رثاء البلدان وأمير الشعراء أحمد شوقي ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم.
ولكن منذ متى أعاد البكاء أوطانا أو حرر أسرى أو استرد كرامة! وقديما قالت العرب: الذكي من يتعظ من أخطائه هو، والأكثر ذكاء من يتعظ من أخطاء غيره، والمصيبة في من لا يتعظ لا من أخطاء غيره ولا من أخطائه هو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق