السبت، 27 أكتوبر 2012

حياة .روجيه غارودي المولود في 17 تموز (يوليو) 1913 في مرسيليا

بعد حياة حافلة بالاثارة لمفكّر ماركسي انتقل من البروتستانتية إلى الكاثوليكية فالإسلام، رحل مؤخّراً الفيلسوف الفرنسي الاشكالي روجيه غارودي عن 99 عاماً، صاحب الكتاب النقدي الفكري اللامع «واقعيّة بلا ضفاف»، وهو كان لفترة طويلة من حياته واحداً من كبار المفكّرين الشيوعيين الفرنسيين، قبل أن ينصرف إلى علم الأديان والتاريخ، وقد أثار سجالاً كبيراً، عندما أصدر في العام 1996 كتابه الشهير «الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية» الذي شكّـك فيه بالمحرقة اليهودية، فاتُّهم باللاساميّة وأدين وحورب في وطنه فرنسا والغرب. وفي افتتاحية بعنوان «رحيل روجيه غارودي»، أشادت صحيفة «لومانيتيه» الفرنسية الشيوعية بهذا الفيلسوف الذي «اضطلع، في نظر عدد كبير من المفكّرين الشيوعيين
في الحقبة الستالينية، بدور «الفيلسوف الرسمي» الذي لا يمكن تصوّره اليوم للحزب الشيوعي الفرنسي».
  في الثمانينيات اعتنق روجيه غارودي المولود في 17 تموز (يوليو) 1913 في مرسيليا (جنوب) من عائلة بروتستانتيّة، بعد عبوره إلى الكاثوليكية فالدين الإسلامي.
وفي العام 1933 انضمّ غارودي، المجاز في الفلسفة والدكتور في الآداب، إلى الحزب الشيوعي. وفي العام 1940 سجن ثلاثين شهراً في أحد معسكرات الجزائر. وفي العام 1945 انضمّ إلى اللجنة المركزية للحزب، ومن ثم إلى المكتب السياسي في العام 1956. وانتخب غارودي نائباً في العام 1954، وأعيد انتخابه في الجمعية الوطنية (1956 ـ 1958) ثم في مجلس الشيوخ (1959 ـ 1962). وبعدما تولّى تدريس الفلسفة في ألبي (جنوبي فرنسا) والجزائر العاصمة وباريس (1958 ـ 1959)، أصبح روجيه غارودي محاضراً ثم أستاذاً جامعياً أصيلاً. وقد ترجمت له إلى العربية كتب عدة منذ السبعينيات، ومنها: واقعيّة بلا ضفاف، وعود الإسلام، حوار الحضارات، فلسطين مهد الرسالات السماويّة، الارهاب الغربي، نحو حرب دينية.
المفكّر اللبناني رضوان السيد رأى في رحيل غارودي، أن هذا المفكّر الفرنسي، ومنذ كان مراهقاً كاثوليكياً، كان شديد التيقّن من سلامة المعتقد والمسلك. بيد أن «أزمة الإيمان» التي نزلت به في الثلاثينيات من القرن العشرين، دفعت به نحو الاتجاه المعاكس تماماً، فصار شديد التيقّن من سلامة الماركسية اللينينية على النهج الستاليني. ومنذ تلك الفترة، صار غارودي معروفاً في أوساط اليسار الفرنسي بالصرامة في اتّباع خطّ الحزب، وتكفير أو تخوين من يخرج عليه حتى ولو كان من مقاومي الاحتلال الألماني، إذ هذا شيء وذاك شيءٌ آخر! وهكذا فالرجل طوال حياته اندفع في سلسلة من التحوّلات الراديكالية، إنما ليس على طريقة المنتقلين أو المهاجرين الذين يقطفون من كل وادٍ زهرة، ولا على طرائق الذين يرجون فائدة أو يتّقون شرّاً، بل بالمعاناة الراديكالية التي تتشدّد حتى النهايات، لكنها تنقلب على تلك النهايات القصوى باتجاهات أخرى، لا يُمسّ بها قرّاؤه إلاّ بشكل مفاجئ.
ونعرف من المفكّر رضوان السيد، أنه في شباط (فبراير) من العام 1986 سهر معه في القاهرة، وسأله عن الراديكالية وعن الانقلاب المفاجئ، فقال له ضاحكاً: الراديكالية في كل اتجاه أدخُل فيه، كلامٌ صحيح وهذا طبيعي، أما انقلاباتي فليست مفاجئة، إذ استغرقني الأمر قرابة ثلاثين عاماً حتى خرجتُ من الماركسية كلّها! لكنني لا أكتب إلا بعدما تتفاقم لديّ الشكوك، فإذا تأكدت شكوكي صرتُ راديكالياً باتجاه آخر!
ونفهم من السيد أنه رأى غارودي لأول مرة في العام 1968 يحاضر في القاهرة. وكان يساريون مصريون ـ ممن احتضنهم محمد حسنين هيكل ـ قد حاولوا بعث الحياة والتواصل في الثقافة السياسية المصرية بعد هزيمة العام 1967، فدُعي الى القاهرة كثيرون قرأنا عنهم في «الأهرام»، أما غارودي ورودنسون فقد حضرتُ محاضرتيهما، يقول السيد، وكتبتُ تلخيصاً لهما نشرتُهُ في مجلة «الفكر الإسلامي» التي كان حسين القوتلي قد أصدرها في دار الفتوى في لبنان (1968ـ1969). والذي أتذكّره أن غارودي تحدّث عن اشتراكيّته ذات الوجه الإنساني، والتي تعترف بالأديان والثقافات والمسارات المتعدّدة. وفهمْتُ فيما بعد أن قيادة الحزب الشيوعي وجهاته الثقافية لا تحبّذ توجّهاته في شأن تعدّد المسارات، وفي شأن الحوار المتمادي مع الكاثوليك في فرنسا والعالم، على رغم موافقتهم مبدئياً على ذلك. لكنّ غارودي لم ينتظر حتى يطردوه بل طرد نفسه من دون أن يهاجم الحزب، قائلاً إنه لن يتحزّب بعد الآن لأنه لا يتقبّل أي دوغمائية!
هناك مرحلتان في حياة غارودي وفكره، أشار إليهما السيد، الأولى أن الفيلسوف قال له في العام 1986 إنه لم يعد الى أي دوغمائيّة، لكنه ما استطاع العيش من دون إيمان! وعلى أي حال، فمنذ مطالع الثمانينيات من القرن الماضي صار غارودي يُصرِّح باعتناقه الإسلام، وكان قد صار صوفيّاً، لكنه تصوّف عصبي، وليس ذاك الذي دخل من طريقه الإسلام فرنسيون كثيرون. المهم أن غارودي دخل الإسلام من طريق قراءة القرآن الكريم، وبحوث كتبها زملاؤه ومستشرقون فرنسيون كبار. يقول غارودي على لسان السيد: أراد ماسينيون أن يجعل من الحلاّج مسيحياً، لكنني عندما قرأت كتابه اعتقنت الإسلام! والحقيقة أنه ما اعتنق الإسلام من هذا المدخل السمِح والضبابي بعض الشيء، بل ـ وعلى عادته كما قال ـ من طريق النصوص الصلبة، والتي ما لبث أن غادرها الى الصوفيّة لكنْ بطريقة دوغمائية بعض الشيء، بحيث لم يعد غير هذا الطريق صحيحاً في فهم الإسلام: لقد حوّل التصوّف نفسه الى نصٍّ صلب!
إنما، وكما يقول إخواننا المصريون، حسب السيد: «هذا كوم»، واشتباكه مع الصهيونية ومع العالم في التسعينيات وما بعد «كوم» آخر! وفي الواقع، فإن عمله على الفكرة القومية اليهودية (الصهيونية)، وعلى مسائل الاندماج والفاشيّة والمحرقة، وعلى استغلالات الدولة العبرية كل ذلك في احتلال الأرض، وصنع القنبلة، وابتزاز أوروبا وأميركا، كل ذلك لا يختلف كثيراً عمّا كتبه يساريون آخرون، بل ومتديّنون يهود. لكن «انشقاقيّة» غارودي الفظيعة في نظر خصومه إنما أتت من أمرين: إنه كان مسلماً عندما قال ذلك عن اليهود، وأنه أنكر حصول المذبحة وعرَّض نفسه للمحاكمة والغرامة وسوء السمعة! بيد أنّ ما لقيه في سبيل «القضية» ما زعزع من عزيمته، ولا شكّـك فيها. وما انقلب بعد ذلك على ما آمن به بل أصرّ (على غير عادته) حتى وفاته.
كان غارودي رجل الاستشرافات الثقافية الكبرى في زمن الحرب الباردة، والعلاقات بين الأديان والحضارات، بل واستشراف انقضاء الماركسية المحاربة، وارتفاع شأن الدين. وقد ظل خلافياً مناضلاً، وما استمتع أحد ولو موقّتاً بوقوف غارودي في حزبه، بمن في ذلك المسلمون. لكنه عاش قرابة التسعين، وقبل خمس سنوات قرأنا كتابه عن حوار الحضارات.
كرّس جلّ ما كتبه للدفاع عن الدين الإسلامي والقيم الإنسانية، ومناهضة الإمبريالية والصهيونية، والتي عانى بسببها في فرنسا وأوروبا.
بعد الاعلان عن إسلامه سنة 1982 متّخذاً «رجاء» اسماً له، قائلاً إنه وجد الحضارة الغربية «بنيت على فهم خاطئ للإنسان، وهو عبر حياته كلّها كان يبحث عن معنى معيّـن لم يجده إلا في الإسلام».
ويرى المفكّر الراحل في كتابه «الإسلام دين المستقبل»، أن اختياره الدين الإسلامي يأتي لما أظهره من «شموليّة كبرى، عن استيعابه للشعوب كافة ذات الديانات المختلفة، وكان في قبوله أتباع هذه الديانات في داره، منفتحاً على ثقافاتهم وحضاراتهم، وأعتقد أن هذا الانفتاح هو الذي جعل الإسلام قويّاً ومنيعاً».
أصدر غارودي ـ الذي أسر في الجزائر خلال الحرب العالمية الثانية ـ أول مؤلّفاته في العام 1946، وحصل على درجة الدكتوراه الأولى سنة 1953 من جامعة السوربون عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حصل على درجة الدكتوراه الثانية عن الحرّيّة في العام 1954 من الاتحاد السوفياتي.
اعتنق صاحب «محاكمة الصهيونية الإسرائيلية» الفكر الشيوعي مبكراً، لكنه طرد من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1970، بسبب انتقاداته الدائمة للاتحاد السوفياتي. وكان عضواً في الحوار المسيحي ـ الشيوعي في الستينيات، وسعى إلى جمع الكاثولكية مع الشيوعية في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن يتّجه للدين الإسلامي، الذي وجد أنه ينسجم مع قيم العدالة الاجتماعية التي يؤمن بها.
أصدر غارودي عدداً كبيراً من المؤلّفات، التي ظل فيها مدافعاً عن الإسلام ومناهضاً للرأسمالية والإمبريالية، ومعادياً لإسرائيل والحركة الصهيونية.
بفعل خلفيّته الشيوعية، واعتناقه الدين الإسلامي، ظلّ غارودي على عدائه للإمبريالية والرأسمالية، وبخاصّة الولايات المتحدة في تلك الحقبة، كما كان مناهضاً للصهيونية، وأصدر بعد مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان سنة 1982 بياناً مطوّلاً في صحيفة «لوموند» الفرنسية مع عدد من المفكّرين الفرنسيين، بعنوان «عن العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان»، وقد كان هذا البيان بداية الصدام بين غارودي والحركة الصهيونية.
نشر غارودي كتاباً بعنوان «الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية» أدّى إلى الحكم عليه سنة 1988 من قبل محكمة فرنسية بتهمة التشكيك في محرقة اليهود، ولا سيما أنه فنّد في كتابه صحّة الأعداد الشائعة عن إبادة اليهود في غرف الغاز على أيدي النازيين. كما أصدر الراحل عدداً كبيراً من المؤلّفات، التي ظلّ فيها مدافعاً عن الإسلام ومناهضاً للرأسمالية والإمبريالية، ومعادياً لإسرائيل والحركة الصهيونية ومن أبرزها: «لماذا أسلمت.. نصف قرن من البحث عن الحقيقة»، «الأصوليّات المعاصرة: أسبابها ومظاهرها»، «محاكمة الصهيونية الإسرائيلية»، «حفّارو القبور.. الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها»، «الولايات المتحدة طليعة الانحطاط»، «حوار الحضارات» و«كيف نصنع المستقبل».
نال جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1985 عن خدمة الإسلام وذلك عن كتابيه «ما يعد به الإسلام» و«الإسلام يسكن مستقبلنا»، وكذلك لدفاعه عن القضية الفلسطينية.
في سن الرابعة عشرة، درس في كلّ من جامعة مرسيليا وجامعة إيكس أون بروفانس، وانضمّ إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، وفي العام 1937 عيّـن أستاذاً للفلسفة في مدرسة الليسيه في ألبي.
خلال الحرب العالمية الثانية، أُخذ كأسير حرب الى فرنسا الفيشيّة في الجلفة في الجزائر بين عامي 1940 و1942. وفي العام 1945 انتخب نائباً في البرلمان، وصدر أول مؤلّفاته في العام 1946، حصل غارودي على درجة الدكتوراه الأولى سنة 1953 من جامعة السوربون عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حصل على درجة الدكتوراه الثانية عن الحرّيّة في العام 1954 من جامعة موسكو.
ففي سبعينيات القرن الماضي، ألقى «غارودي» خطبته الشهيرة في مؤتمر الحزب الشيوعي الفرنسي، والتي بدأها بعبارته الأشهر: «لم يعد الصمت ممكناً»، حيث قدّم في هذه الخطبة وجهة نظره التي دخلت في تعارضات مع بعض النظرية الماركسية، ولذا كان طبيعياً أن يغادر حزبه، ويبدأ في اتّخاذ مواقف حاسمة في القضية الفلسطينية وضد الصهيونية وكيانها.
وقد طرد غارودي من الحزب الشيوعي الفرنسي بعد ذلك لانتقاداته المستمرّة للاتحاد السوفياتي، وفي السنة نفسها أسّس مركز الدراسات والبحوث الماركسية وبقي مديراً له لمدة عشر سنوات.
وبالعودة إلى موضوع اعتناقه الإسلام، فهو كان عضواً في الحوار المسيحي ـ الشيوعي في الستينيات، وهناك وجد نفسه منجذباً للدين، وحاول أن يجمع الكاثوليكية مع الشيوعية خلال عقد السبعينيات. وبدأ يميل إلى الإسلام في هذه الفترة. وكان دخوله الإسلام في 2 تموز (يوليو) من العام 1982، وقد أشهر غارودي إسلامه في المركز الإسلامي في جنيڤ.
أشرنا من قبل الى أن المفكّر الفرنسي الإنساني عاش تجربة فارقة في مطلع الثمانينيات، تمثّـلت في مجازر صبرا وشاتيلا المروّعة في لبنان، والتي ارتكبتها الميليشيات المسيحية بغطاء إسرائيلي ميداني. وقد أصدر غارودي بياناً احتلّ الصفحة الثانية عشرة من عدد 17 حزيران (يونيو) من العام 1983 من جريدة «لوموند» الفرنسية بعنوان معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان، وقد وقّع البيان مع غارودي كل من الأب ميشيل لولون والقسّ إيتان ماتيو. وكان هذا البيان بداية صدام غارودي مع المنظّمات الصهيونية التي شنّت حملة شعواء ضده في فرنسا والعالم.
في العام 1998 أدانت محكمة فرنسية غارودي بتهمة التشكيك في محرقة اليهود في كتابه «الأساطير المؤسّسة لدولة إسرائيل»، حيث شكّك في الأرقام الشائعة حول إبادة يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين. وصدر بسبب ذلك حكم ضده بالسجن لمدة سنة مع وقف التنفيذ.

انفتاح الإسلام

ظلّ ملتزماً بقيم العدالة الاجتماعية التي آمن بها في الحزب الشيوعي، ووجد أن الإسلام ينسجم مع ذلك ويطبّقه. ظلّ على عدائه للإمبريالية والرأسمالية، وبالذات لأميركا.
وفي كتاب «الإسلام دين المستقبل»، يقول غارودي عن شموليّة الإسلام:
«أظهر الإسلام شمولية كبرى في استيعابه سائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله الناس الذين يؤمنون بالتوحيد، وكان في قبوله أتباع هذه الديانات في داره، منفتحاً على ثقافاتهم وحضاراتهم، والمثير للدهشة، أنه في إطار توجّهات الإسلام استطاع العرب آنذاك ليس إعطاء إمكانيّة تعايش نماذج لهذه الحضارات فقط، بل أيضاً إعطاء زخم قوي للإيمان الجديد: الإسلام، فقد تمكّن المسلمون في ذلك الوقت من تقبّل معظم الحضارات والثقافات الكبرى في الشرق وأفريقيا والغرب، وكانت هذه قوّة كبيرة وعظيمة له، وأعتقد أن هذا الانفتاح هو الذي جعل الإسلام قويّاً ومنيعاً».
ويرى الكاتب المصري بلال رمضان، أن حياة غارودى تعكس إلى أي مدى كان هذا الرجل مفكّراً كبيراً، حيث شهدت تحوّلات غنيّة لرجل بدأ حياته بانضمامه إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، واقترب من المتصوّفين الإسلاميين في أواخرها، وكان لابن عربي تأثير كبير فيه، وهو ما كان يفهم في إطار ماركسيّته التي تميّزت بإنسانيّته، على العكس الشائع والمعروف عن الماركسيين؛ ويعبّر كتابه «واقعية بلا ضفاف» عن شخصيّته المتّسعة جداً، والتي تجد في داخلها الكثير، ويوضح «مبروك» أن جرأة «غارودي» في أن يمسّ أحد التابوات المحرّمة في الغرب، والتي تتمثّـل في علاقة الأوروبي واليهودي، كانت سبباً في فتح هذا الباب للكثير من المفكّرين الأجانب في أن يتجرأوا ويهتمّوا بالقضية اليهودية والفلسطينية، لتكون محطّ سؤال لا ينبغي عدم الاقتراب منه، فشجّع العديد من المؤرّخين اليهود ليسألوا عن حقيقة «اليهود المختلقة».
وحيث أن «غارودي» الذي انحاز للقضايا العربية، وفضح بمنهجية علمية وعقلانية ادّعاءات الحركة الصهيونية، وفكّـك مشروعها الاستعماري في المنطقة العربية القائم على أساطير وأوهام لا سند لها في التاريخ والتراث الديني الإنساني، لم يكن منطقه يكيل الأمور بمكيالين، فقبل إسلامه.
أما في المجال الثقافي، فقد أحدث غارودي، حسب الكاتب الجزائري سعدون يخلف، ثورة من خلال التلاقح والتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب، ومساهمته المبدعة في الحضارة الكلّيّة، وهذا راجع إلى «مبدأ التوحيد الإسلامي»، يقول روجيه غارودي: «وليس الإسلام ناقل ثقافات سابقة فقط، وعلى وجه الخصوص ثقافة الشرق والإغريق، بل هو مبدع ثقافة جديدة، فتصوّره للوحدة (التوحيد) لا كوحدة الوجود، بل كعمل توحيدي في كلّ مجالات الخلق، يتيح له أن يجدّد الثقافة السابقة تجديداً عميقاً». ولكن لسوء الحظ، بدأ انحسار الإسلام، وبالتالي انحسرت تعاليمه وقيمه، بسبب فساد الأمراء الشرهين للسلطة والثروة، الذين جعلوا من الدين أداة قوّة، ولم تكن أسباب الانحسار محصورة في العامل السياسي فحسب، بل تعدّت إلى المؤسّسة العلمية عندما أُدين العقل وسُدّت في وجهه سُبل البحث والاجتهاد.
ولكن، ما السبيل إلى إرجاع الإسلام الحيّ؟.
لعل السبيل الوحيد في إرجاع الإسلام الحيّ إلى واقعنا، هو نبذ التعصّب والتقليد وفتح باب الاجتهاد، وإخراج الإسلام من دائرة القول إلى دائرة الفعل، ومن الجموديّة إلى التجديد، وفي التحليل الأخير كما يرى غارودي أن «كل نهضة للإسلام تبدأ بقراءة جديدة للقرآن الكريم»، أي قراءة واعية تأخذ بعين الاعتبار ظروف العصر ومستجدّاته.

الغرب والإسلام

لذلك كلّه يرى غارودي أن الصراع بين الغرب والإسلام هو صراع بين القيم، بمعنى آخر صراع بين الالحاد والإيمان، وحرب بين وحدانيّة السوق والمعنى، وبين الانحطاط إلى الغريزة الحيوانية للنفس الإنسانية والتسامي، أي «التسامي في الهدف ضد الاستسلام لحتميّات اقتصادية غدت قوانين طبيعية كما التلقائية الغريزية».
ويرى يخلف أن هناك نتيجة يصل إليها غارودي، تقول بأن «كلّ نهضة في الغرب تبدأ برفض وحدانيّة السوق»، و«أن كلّ نهضة للإسلام تبدأ بقراءة جديدة للقرآن الكريم»، وهذا هو منطلق حوار الحضارات الذي تبنّاه في كتابه «حوار الحضارات»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق