الجمعة، 1 فبراير 2013

أوضاع الزراعة والغذاء في الوطن العربي



دخلت أوضاع الزراعة والغذاء في الوطن العربي منذ منتصف السبعينات مرحلة حرجة, تمثلت في تنامي الطلب علي المنتجات الزراعية عموما والغذائية علي وجه الخصوص, نتيجة ارتفاع معدلات النمو الديموجرافي والقفزة النوعية في الدخول الفردية في بعض الدول العربية (النفطية منها), بالإضافة إلي ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية وتقلص الأهمية النسبية للقطاع الزراعي في الهياكل الاقتصادية العربية. وقد نجم عن هذا الوضع تفاقم العجز الغذائي وبالتالي اللجوء إلي المصادر الأجنبية لسد هذا العجز.
وتعتبر أسباب الفجوة الغذائية العربية متعددة ومتشعبة, ويختلف الدور الذي تلعبه هذه الأسباب في تعميق هذه الأزمة حسب طبيعة الدول من حيث ثقلها السكاني وتوزيعهم بين الريف والحضر، وندرة أو محدودية الموارد الطبيعية والمالية، أو عدم نجاح الهياكل الإدارية والتنظيمية في الدول، وعدم الاهتمام بالزراعة ضمن مخططات التنمية. وهي عوامل لها تأثير مباشر أو غير مباشر علي الإنتاج والإنتاجية واستغلال الطاقات المتاحة. ومن ثم هناك إجماع علي أن أزمة الغذاء في الوطن العربي وخاصة في مصر وصلت إلي حد حرج يتجلي في تنامي الاعتماد علي المصادر الخارجية لإطعام السكان, وتدهور نصيب الفرد من الناتج الزراعي، وتراجع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي.بالإضافة إلي تدني نصيب الفرد من المساحة الزراعية.
فمن المعروف أن الرقعة الزراعية أرتفعت من مليوني فدان في 1805 إلي 3.500.000 في 1811 ومثل ذلك تقريبا في 1813 ثم إلي 3.032.000 في 1821 و 3.500.000 في 1835، 3.800.000 في 1838 ، 3.856.000 في 1840 . ثم وصلت في سنة 1852 إلي 4.160.000 فدان ثم إلي 4.758.000 في 1882 .ثم زادت المساحة المزروعة إلي 4.941.000 في 1980 ثم إلي 5.034.000 في 1897، ثم إلي 5.335.000 في 1902 ثم إلي 5.403.000 في 1907 ثم أخيرا إلي 5.758.000 في 1911 . أي أن المساحة المنزرعة عبرت علامة الخمسة ملايين فدان لأول حوالي دورة القرن1900 ، أي أن نحو مليون فدان أضيفت إلي الرقعة المزروعة في نحو 30 سنة أي أن المساحة المزروعة أصبحت تعادل إلا قليلا نحو ثلاثة أمثال ما كانت عليه في بداية عصر محمد علي وضعف ما كانت عليه في نهايته . ولكن يبدو مع ذلك أن هذه كانت نهاية التوسع الأفقي الكبير مثلما كانت قمته . أن ومعظم هذه المساحات تحت الزراعة الدائمة وأغلبها في الدلتا . مما أدي إلي إدخال محاصيل نقدية هي المحاصيل الصيفية كما أدي إثراء الإنتاج الزراعي دون أن يكون هذا علي حساب محاصيل الحبوب والغذاء التي كانت أساس الزراعة المصرية منذ القدم . وعلي رأس تلك المحاصيل الجديدة جاء القطن يليه القصب .
وتشير سلسلة تقارير معلوماتية والتي يصدرها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار إلي أنه علي الرغم من زيادة عدد الحائزين للآراضي الزراعية بأكثر من الضعف بين عامي 1960و2000 إلا أن نسبة الحائزين إلي إجمالي عدد السكان انخفضت من حوالي 6.1% عام 1960 إلي حوالي 5.8% من إجمالي عدد السكان عام 2000 . ويمتلك 90.4% من حائزي الآراضي الزراعية أراضي زراعية تقل مساحتها عن 5 أفدنة وذلك وفقا للتعداد الزراعي عام 2000حيث بلغت نسبة من يمتلكون أقل من فدان حوالي 43.5% من إجمالي عدد الحائزين . وقد ارتفعت مساحة الحيازات الزراعية بحوالي 20% وفقا لتعداد 2000 مقارنة بتعداد 1929، حيث ارتفعت مساحة الحيازات الزراعية من 7.4 مليون فدان عام 1929إلي 8.9 مليون فدان عام 2000، وهو معدل زيادة متواضع مقارنة بالنمو الملحوظ في عدد الحائزين للأراضي الزراعية خلال الفترة نفسها . ويملك حائزو الأراضي الزراعية التي تقل مساحتها عن فدان ( ويمثلون حوالي 34.5% من إجمالي عدد الحائزين ) حوالي 8.1% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية وفقا لتعداد 2000. في حين يملك حائزو الأراضي الزراعية التي تتراوح مساحتهابين فدان إلي أقل من 5 أفدنة ( ويمثلون حوالي 64.9% من إجمالي عدد الحائزين ) حوالي 93.1% من إجمالي الأراضي الزراعية . ويطبق المزارعون في الأراضي القديمة نظاما يقوم علي دورة محصولية معقدة ، وتشمل المحاصيل الشتوية القمح والبرسيم والفول . والمحاصيل التي تسود زراعتها في الصيف هي الذرة والأرز والقطن ، وتزرع محاصيل الخضر مثل الطماطم والبطاطس والخيار والبطيخ وغيرها في المواسم الثلاثة الأخري .ولقد ظل الاقتصاد المصري منذ القدم يعتمد علي القطاع الزراعي كمحرك للنمو ومصدر لدعم القطاع الغير زراعي .وقد انخفض نصيب الزراعة في إجمالي الناتج المحلي من 92.3% في عام 1970إلي 18.2% في عام 1980ثم إلي 61.6% في عام 2000. وانخفضت نسبة العاملين في القطاع الزراعي من 35.8% في عام 1985 إلي 33.2% في عام 1990 ثم إلي 82.1% في سنة 2000.ويرجع هذا الانخفاض النسبي في دور الزراعة ، إضافة أن هذا القطاع تعرض لتشوهات قبل الشروع في إصلاحه ، فكان يحصل علي حصة متناقصة من استثمارات القطاع العام خلال السنوات الخمس والعشرين الماضبة ، ولم تكن الاستثمارات توزع بالشكل الأمثل بين القطاعات الفرعية المختلفة .
وقد شرعت الحكومة في تنفيذ الإصلاح الاقتصادي في القطاع الزراعي منذ 1987في سياق برنامج الإصلاح الاقتصادي . وكان من بين التدابير التي اتخذت تحرير أسعار وأسواق المحاصيل الرئيسية ، وإلغاء دعم سعر الفائدة علي القروض الزراعية ، والتحول من الدورة الزراعية الإجبارية إلي دورة يقررها المزارعون ، وكذلك تحرير القيمة الإيجارية للأراضي . ولم تتبق في القطاع الزراعي أي ضوابط حكومية في الوقت الحاضر باستثناء التوريد الإجباري لقصب السكر وتحديد حد أقصي للمساحات المزروعة بالأرز ، وتوزيع أصناف القطن توزيعا جغرافيا حسب المناطق .
مصر والمعاملة التفضيلية
لقد كانت مصر، وستظل مستوردا صافيا للمنتجات الزراعية ، فضلا عن كونها من بين البلدان النامية المستوردة الصافية للغذاء ، وتنتمي مصر إلي فئة بلدان الشريحة الدنيا من الدخل المتوسط ، وتضم هذه الفئة 52 بلدا ، وعلي الرغم من تصنيف مصر من البلدان التي تعاني عجزا في الغذاء ، فإنها ليست مصنفة ضمن مجموعة البلدان منخفضة الدخل التي تعاني عجزا في الغذاء ، وهي المجموعة التي من المحتمل أن تحصل علي أكبر قدر من المعاملة الخاصة والتفضيلية في مفاوضات منظمة التجارة العالمية.
وكما أثبتت البحوث التي أجرتها منظمة الأغذية والزراعة مؤخراً فان عملية التخفيف من حدة الجوع لا يكتنفها تبرير إنساني وحسب، بل حكمة اقتصادية قوية حيث أشارت إلي '' أن الآثار الاقتصادية المترتبة علي مشكلة الجوع وسوء التغذية فهي عالية وكما يظهر ذلك في حجم الانتاجية المفقودة وزيادة معدل الأمراض والوفيات.كما أن التغيّرات الديموجرافية والإقتصادية العميقة تواصلان إحداث تبدّلات ملموسة ليس في نظم الأغذية وحدها بل وأيضاً في طبيعة التحديات التغذوية ذاتها التي يواجها المجتمع المصري.
الرأسمالية الجديدة.. والوقائع المجردة

ولئن كانت الأرض الزراعية في الريف تحت الاقطاع وقبل يوليو 1952قد عدت بحق بالوعة للدخل والثروة القومية ، فيقينا تحولت الأرض العقارية والمباني في المدن والريف تحت الرأسمالية الجديدة إلي بالوعة أشد عمقا واتساعا وخطرا بالمضاربات المسعورة وباستقطاع أكثر من 160ألف فدان سنويا من أجود الأراضي للبناء عليها . ومن ثم استبدلنا الاقطاع الأرضي بالاقطاع المالي . فالذي حدث في مصر بالتحديد خلال مرحلتين الأولي تحولت من الاقطاع إلي رأسمالية الدولة تحت دعوي الاشتراكية ثم في الثانية انتقلت من رأسمالية الدولة إلي الرأسمالية الفردية .والنقطة الأهم هو أنه في سنة 1970كانت الواردات الزراعية تعادل 16% من قيمة صادراتنا ، فإنها أرتفعت في سنة 1980إلي ما يعادل 08% من قيمة إجمالي صادراتنا باستبعاد البترول . وفي سنة 1974كانت حجم صادراتنا الزراعية يغطي حجم وارداتنا الزراعية بالتقريب إذ كان كلاهما في حدود 600 - 700مليون جنيه . وفي أعقاب ذلك ولأول مرة أخذت الواردات تزداد باطراد ، ومن هنا بدأت " الفجوة الغذائية " . واعتقد أن تلك الفترة هي شبيهة بتلك الفترة التي نعيشها الآن ، حيث أرتفعت أسعار النفط أرتفاع فجائي وكبير ، وارتفاع الأسعار العالمية المفتعل والمخطط أيضا وإلي التضخم المسعور لكن سيظل الجزء الأكبر منه يرجع إلي قصور إنتاجنا الزراعي مع زيادة السكان المفرطة وتغير أنماط الاستهلاك وإلي حمي الانفجار الاستهلاكي . والمحصلة إذا كنا لم نعد كما كنا في الماضي دولة زراعية فنحن أيضا لم نعد دولة صناعية بعد كما أصبح الاقتصاد السلعي يعاني من نقص الأيدي العاملة الماهرة وغلاء الأيدي غير الماهرة في الوقت الذي نعاني منه تضخم وإفراط في السكان وهو مما سينعكس مستقبلا علي التجارة والخدمات حيث أن عائداتها باتت تفوق الزراعة والصناعة . لكن الشيء الخطير أن كل مشكلة نواجهها الآن باتت تحل بمشكلة أخري .
وعلينا أن نقترب من هدفنا وهو الخاص بالأمن الغذائي ، فالمعروف أن الموارد الطبيعية ليست معطيات صماء من الطبيعة وإنما تقييمات حضارية . فالتنمية الاقتصادية والإنتاج والتقدم هي حاصل ضرب الموارد الطبيعية في المواهب الإنسانية .
ورغم اكتمال بناء السد العالي وتمام استصلاح نحو مليون فدان جديدة ، إلا أن ثورة زراعية مواكبة لم تصحب ثورة الري ومن هنا أشتد قصور الزراعة المصرية عن حد الكفاية الذاتية وخاصة الكفاية الزراعية ، وبرزت بشدة مشكلة " الفجوة الغذائية " وتحولت مصر لأول مرة في تاريخها الحديث وربما تاريخها كله إلي دولة مستوردة للغذاء والطعام والحبوب وانقلبت المقولة التاريخية الشهيرة " الحبوب من مصر Corn from Egypt إلي " الحبوب إلي مصر Corn to Egypt" بل لقد وصل الاعتماد علي الخارج إلي أكثر ثلاثة أرباع استهلاكنا من القمح بالذات .فهو أصبح منذ وقت مبكر نقطة الضعف وأضعف حلقة في سلسلة الكفاية الذاتية . حيث بدأ العجز منذ 1945 ، فبلغ الوارد 1.281.000 أردب بينما اختفي الصادر تماما وإلي الأبد عمليا . ولكن نقطة التحول في الفترة من 50-1954 حيث بلغ متوسط الوارد السنوي إلي 4.120.000 أردب أو 618.000 طن ثم أرتفع في الفترة من 55-1959 إلي 984.000 طن ، وفي الفترة 60- 1964 إلي 1.631.000 طن ، وفي الفترة من 65- 1969 إلي 2.118.000 ثم الفترة 70-1974 إلي 2.170.000 طن أي أن الاستيراد دخل دائرة المليون طن لأول مرة في منتصف الخمسينات ودائرة المليونين في الستينات . ولكن بالنظر إلي عامي 1973 و1974 فإنهما يمثلان طرفي نقيض منذ الخمسينات ، إذ كانت الأولي تمثل الحد الأدني للاستيراد حيث هبط لأول مرة منذ ربع قرن إلي ما دون المليون (982.000 طن ) بينما كانت الثانية الحد الأقصي حيث ناهزت الأربعة ملايين أي أربعة الأمثال في عام واحد (3.953.000 طن ). ثم قفز الرقم إلي خمسة ملايين طن في الثمانينات . حيث بلغ الاستيراد عام 1980إلي 5.423.000 طن .أي ثلاثة أمثال الإنتاج المحلي البالغ 1.796.000 طن .ثم في عام 18-2891 وصل الرقم إلي 6 ملايين طن ومجمل استهلاكنا نحو 7.5 مليون طن . ثم قفز الرقم إلي 15مليون طن وبالتالي يمكن القول أن القمح هو نقط ضعف في الزراعة المصرية جميعا . كما أن مأساتنا ليست في زيادة اعتمادنا علي الخارج بل للأسف في مواكبة عصر سعار الأسعار العالمية وموجة الغلاء والتضخم المتوحشة فأزدوج العبء والخطر بالاقتصاد إلي جانب السياسة وصار ماديا ماليا مثلما هو أمني استراتيجي . والأسوأ أننا نزداد كل يوم عجزا إنتاجيا وابتعادا عن الكفاية الذاتية واعتمادا علي الاستيراد وبالتالي استنزافا للاقتصاد القومي . وبهذا بدأت المشكلة تتصاعد بمعدل الربح المركب كما يقول المصرفيون.
وهناك حقائق يجب أن نعرفها تمام المعرفة ونحن ننظر لخريطة القمح المصري :
رغم أن القمح ظل محصولا تصديريا إلي بدايات القرن الماضي وإلي أوسطه ، وإن كان بنسب متواضعه ومتضائلة معا ، فإنه لم يكن يتوسع بصفة خاصة في الظروف العادية ، وإنما كانت فترات الحروب حصنه وحصانته .
إن مصر لا تقع تماما في قلب نطاق القمح العالمي كما يروج البعض بقدر ما تقع علي أطرافه وهوامشه . ومساحة القمح لم تتجاوز 1.4 مليون فدان قبل الحرب العالمية الثانية . إلا أن الحرب أعطته دفعته الكبري بتحديد الحد الأدني لزراعته بثلث الحيازة ضمانا للغذاء المحلي مع تعذر الاستيراد ، فارتفع متوسطه إلي 1.6 مليون فدان ، ثم وصل إلي المليونين في 1943 ثم عاد للانخفاض إلي 1.559.000 في 45-1949 ثم أرتفع إلي 1.571.000 في 50-1954 حيث سجل أعلي علامة له منذ الحرب العالمية وهي نحو 1.8 مليون فدان في 1954 . وكان القمح يحتل 18% من مساحة مصر المحصولية اثناء الخمسينات . ثم واصل أرتفاعه حتي تقرب من 3 ملايين فدان . وكلنا يعرف أنه في كل عدة أعوام يحدث تصعيد لأحد المحاصيل الكبري حتي يلحق بنادي المحاصيل المليونية ، ويخرج أيضا من دائرة المحاصيل الكبيرة ، فبعد أن كانت المحاصيل المليونية منذ بضعة عقود أربعة فقط هي الرباعية التقليدية : البرسيم - الذرة - القمح - القطن ، تحولت منذ الستينات إلي خماسية بإضافة الأرز ، ثم منذ أواخر السبعينات إلي سداسية بإضافة الخضروات . ومن ثم علينا أن ندرك أننا هنا نعيش حقيقة صراع المحاصيل فكل زيادة في "أحدها يستتبعها حتما نقص في الآخر ولابد أن يأتي علي حساب الغير ، فإن أي توسع في مساحة القمح يستتبعه بالضرورة تقلص في مساحة القطن ،وتكاد العلاقة التنافسية بينهما تكون عكسية جغرافيا وتاريخيا ، فهما لا يجتمعان في أرض واحدة خلال سنة زراعية واحدة . وهناك حقيقة أخري أن الذرة يزرع دائما بعد القمح الشتوي فإن زيادة مساحة القمح يمكن أن يواكبها زيادة في مساحة الذرة أي هنا علاقة طردية ، لكن مع القطن علاقة عكسية .
حقيقة الاكتفاء الذاتي
هل يمكن أن نكتفي ذاتيا من القمح ؟
لعل من المفيد أن نحول الوارد الغذائي في صيغة أرضية أي كم فدانا من هذه المساحة تأتي هذه الواردات إذ نحن حولناها إلي أصلها الأرضي الذي جاءت منه وبالتالي يمكن أن نحدد وارداتنا من كل سلعة غذائية نستوردها إلي إنتاجنا المحلي من تلك السلعة ثم نضرب هذه النسبة المئوية في مساحة محصولنا المحلية ، فتكون المحصلة هي المساحة الفرضية التي أنتجت تلك الكمية من الواردات بنفس مستويات ومقاييس إنتاجنا المحلي .فلو كانت واردتنا نحو 5.423.000 من القمح والدقيق فالمساحة المستوردة هي 4.004.250 فدان أي أننا نستورد من الغذاء كما لو كنا نستورد بالقوة ثلثي مساحتنا الأرضية المنتجة نفسها علي الأقل .
ومن ثم لا يمكن الوصول بالاكتفاء الذاتي من القمح حتي ولو كان تعداد سكان مصر نصف هذا العدد الحالي . تحقيق الكفاية من القمح يحتاج إلي زيادة الرقعة الزراعية نحو 4 ملايين فدان . علي الأقل إلي المساحة الحالية . هذا بخلاف الذرة والأرز والقطن . ونخلص من ذلك أن الكفاية من الحبوب مستحيلة تقريبا وغير مطلوبة عمليا ، إضافة إلي إن الحقيقة الصارخة تؤكد بغير تزويق أن الدول النامية سوف تكون بحاجة الي علاقات تجارية أكثر تحررا (من الحواجز والعقبات) من أجل أن تطعم نفسها. وفي دراسة حول هذا الموضوع بعنوان (المأدبة المنقولة) Foreign Affairs عدد يونية 2000 (يلخص الباحثان) رانج وسيتاور رؤيتهما
لأهمية البعد التجاري في العلاقات الدولية ولاسيما في قضية الأمن الغذائي في عبارة تقول: أن أمريكا ستكون محورا أساسيا في تلك العلاقات التجارية حيث تدل البيانات علي أنه مع حلول عام 2020 سوف تأتي نسبة 60% من صافي مستوردات الحبوب في العالم من الولايات المتحدة. إنها ببساطة عملية تمكين يتاح بواسطتها نقل أو تحويل الطعام ـ وبخاصة الحبوب ـ من مناطق الفائض الي مناطق العجز بما يتيح بالتالي لمناطق الاحتياج أن تطعم نفسها مادامت قادرة علي أن تدفع المطلوب أو تسدد الفواتير. وقد يكون نقدا وعدا وقد يكون علي شكل مبادلات أو مقايضات تمنح امتيازا أو تحقق مصالح والمهم أن علي كل دولة أن توظف الميزة النسبية التي تتمتع بها وأن تعمل علي تفعيل واستثمار هذه الميزة النسبية .ولا يمكن منافسة الآخرين في هذا المجال خاصة وأن إذا عرفنا أن تكاليف إنتاج طن القمح في مصر تعادل تكاليف إنتاج 30 طنا في الولايات المتحدة .إضافة إلي أن التركيب السلعي للواردات الغذائية يعكس أهمية السلع الضرورية للحياة والتي يصعب الاستغناء عنها أو التقليل من حجمها الاستهلاكي بسهولة ، مثل الحبوب التي تعتبر سلعة حساسة في نظام المستهلك.ثم أخيرا ضعف القدرة التفاوضية للدول المستوردة للغذاء بسبب تعاملها منفردة مع القوي الفاعلة في الأسواق الغذائية الدولية وضعف هامش المساومة نتيجة حساسية الغذاء ودوره في الاستقرار السياسي والاقتصادي. فهناك مقولة مؤداها " إنك لا تحصل من المفاوضات علي ما تستحقه، ولكنك تحصل علي ما تنجح في التفاوض بشأنه". وعلي البلدان النامية ألا تذهب إلي المفاوضات وهي تفترض أن الجانب الآخر سوف يوافق علي كل ما تريده.
الإكتفاء الذاتي أم الأمن الغذائي
ولكن كيف ننظر إلي مفهوم الاكتفاء الذاتي الغذائي وقضية الأمن الغذائي ؟
يعني الاكتفاء الذاتي الغذائي القدرة علي تحقيق الاعتماد الكامل علي النفس وعلي الموارد والإمكانات الذاتية في إنتاج كل احتياجات المجتمع الغذائية محليا. فمفهوم الاكتفاء الغذائي الكامل يعتبر مفهوما عاما وغير واضح إذا لم يوضع في إطار جغرافي وتاريخي محدد، كما أنه في بعض الأحيان يحمل شحنة أيديولوجية.
ويتعلق التحفظ الثاني بنسبية مفهوم الاكتفاء الذاتي الغذائي، هل هو عند الحد الأدني في توفير الاحتياجات الغذائية أو الحد المتوسط أو الحد الأعلي ؟ فلابد من ربط هذا بالمستوي الاقتصادي والمعيشي للمجتمعات أو المجتمع موضع الدراسة.كما يعتبر التحفظ الثالث أن الاكتفاء الذاتي الغذائي الكامل قد يكون هدفا قوميا نبيلا، إلا أن تحقيقه مرتبط بالدرجة الأولي بالموارد المتاحة وقدرتها علي الوفاء بالاحتياجات. وقد يقرر أحد الأقطار المضي في تحقيق هذا الهدف، إلا أن ذلك يكلفه تضحيات اقتصادية واجتماعية باهظة إذا ما قورنت بحلول أكثر وسطية.
أما التحفظ الأخير فيتعلق بمدي الواقعية في القرار الاقتصادي القاضي بسياسة الاكتفاء الذاتي الغذائي الكامل، إذ الموارد الزراعية محدودة وقطاع الزراعة هش لأنه يرتبط بصورة مباشرة بالتغيرات المناخية والتكنولوجية مما يجعل التعويل عليه بصورة مطلقة قرارا اقتصاديا غير رشيد. كما أنه في ظل العولمة الاقتصادية وما رافقها من تحرير التبادل التجاري في إطار المنظمة العالمية للتجارة، فإن معيار الاختيار الرشيد يميل إلي اعتبار التكلفة الأفضل بغض النظر أو دون تمييز بين إنتاج محلي أو إنتاج خارجي. وهناك اعتبار ثالث يتعلق بارتفاع مستويات المعيشة وتعدد متطلبات وأذواق المستهلكين لدرجة يصعب معها أن تنتج كلها محليا. ففي ظل التحولات الاقتصادية العالمية وما رافقها من تحرير التبادل التجاري فإن مفهوم الاكتفاء الغذائي الذاتي الكامل مفهوم طوباوي بل مرفوض لأنه يؤدي إلي إيقاف جميع العلاقات التجارية الخاصة بالمواد الغذائية مع الدول الأخري. لذا فإن هناك حاجة إلي تغيير في التناول إلي استخدام مفهوم الأمن الغذائي بدل الاكتفاء الغذائي الكامل لخلوه من أي شحنة دلالية أيديولوجية.
المطلوب الآن تحقيق أكبر قدر من الاستثمار والاستغلال للمواد المتاحة بأكبر طريقة اقتصادية ممكنة سواء ذلك كما أو كيفا نسبيا أو علي الإطلاق ، سلعيا أو نقديا ، داخليا أو خارجيا . المطلوب هو الكيف قبل الكم في زراعتنا المصرية ، أي أكبر محصول من أقل مساحة ، أكبر إنتاج حيواني بأقل علف وأكبر عائد بأقل تكلفة . ومن ثم تقودنا تلك الحقيقة إلي ثلاثة أسئلة جوهرية : ماذا نزرع ؟ وكيف نزرع وأين نزرع ؟
وحدة المياه والمتغيرات الجديدة
والنقطة الأخري أن نضمن الحد الأقصي من استغلال وحدة الماء ، فبعض محاصيلنا في حاجة ماسة إلي إعادة النظر ، فبعض المحاصيل تبدو حاليا كأربح وأمثل استغلال للأرض ، ولكن الحقيقة أن هذا يغفل حساب عنصر الماء ، ماء الري ، وهذا العنصر سيدخل المعادلة قريبا وخاصة بعد توقيع اتفاقية الأمم المتحدة للأنها عام 1997وإن كانت مصر لم توافق عليها لكن ستكون المرجع لأي نزاع قادم بشأن المياه كذلك قواعد هلسنكي واتفاقية المياه الجوفية كلها ستكون إطارات مهمة لكيفية استغلال المياه إضافة إلي تعليمات البنك الدولي الأخيرة بشأن زراعة المحاصيل المستنزفة للماء . كل ذلك أمور يجب أن نأخذها في الاعتبار ونحن نخطط لسياستنا الزراعية .
ومن ثم علينا أن نعي أن مفهوم الأمن الغذائي في مثل حالتنا المصرية أن تغطي الزراعة نفسها بنفسها في ميزان الصادرات الزراعية - الواردات الزراعية ، بمعني أن قيمة الصادرات الزراعية الخام والمصنعة تساوي قيمة السلع الغذائية المستوردة علي الأقل مثلما كان الحال في عام 1974 ومن ثم تستقل الزراعة بنفسها اقتصاديا وتخرج من الاعتماد علي إيرادات القناة والبترول والسياحة لتغطي العجز .وبالتالي نعم للأمن الغذائي لا للاكتفاء الغذائي . وهذا يجرنا إلي إلي ضرورة إعادة النظر في محاصيلنا الزراعية من خلال زراعة محاصيل غالية وعالية القيمة عالميا لنصدرها بأسعار مرتفعة ، وبثمنها نستورد السلع والمحاصيل الغذائية التي تنقصنا والتي تعد أرخص نسبيا وأقل تكلفة في السوق العالمي . وهذا ليس بجديد علينا ، فقد كنا نستورد من الخارج نحو مليوني أردب قمح تحتاج زراعتها محليا إلي 400ألف فدان . ولكن لما كان سعر قنطار القطن وقتئذ يعادل سعره 5 أرادب من القمح ، فقد كان إنتاج 100ألف فدان من القطن كافيا لتغطية كل واردتنا من القمح مما يترك لنا 300ألف فدان نزرعها بمحاصيل أخري .كذلك الحال بالنسبة بالنسبة للبصل فقد كان ثمن بيع 6 قناطير من البصل يغطي ثمن شراء أردب من القمح ، فإن محصول فدان واحد من البصل جدير بأن يغطي ثمن محصول 4 أفدنة من القمح . أن في فترة الاشتراكية كنا ندرك أبعاد وآليات السوق الدولية وكيفية التعامل مع أسواق السلع الزراعية ، لكن للأسف مع نظام اقتصاد السوق الحر أصبحت الزراعة المصرية أكثر انغلاقا عما كانت عليه في فترة الستينات ، مما يستدعي إعادة النظر في أسلوب إدارة اقتصادنا القومي بشكل عام والاقتصاد الزراعي بشكل خاص وهذا يستدعي منا التسليم أولا بالتغيرات الجديدة التي طرأت علي علم المحاصيل ، ففي بحث هام ألقاه لويس فريسكو - المدير العام المساعد - مصلحة الزراعة- منظمة الأغذية والزراعة في خطاب أمام المؤتمر الدولي الثالث لعلوم المحاصيل مشيرا إلي أنه علي الرغم من أن بحوث المحاصيل كانت المسئول الرئيسي في القرن الماضي عن الزيادة التي بلغت أربعة أمثال ما كانت عليه في متوسط الغلات، والزيادة التي بلغت ستة أمثال ما كانت عليه في المحصول الإجمالي، لهذا لابد أن يستعيد علماء المحاصيل مصداقيتهم وقبول الرأي العام لهم ، بتحليل الاتجاهات في العالم من حولنا وما تشكله من تحديات علمية. وأنهم يتحملون جزءا من مسؤولية اختيار المحاصيل التي يتم زراعتها. ومع أن هناك هجوما عنيفا علي العولمة إلا أنها بما تتيحه من زيادة حركة رأس المال والعمالة والسلع فرصا جيدة أمام البلدان الأكثر فقرا. لكنها ترتبط ارتباطا بالخصخصة، لكنها تؤدي أيضا إلي التركيز- حيث أن الصناعات العشر الأولي في العالم في مجال البذور والكيماويات الزراعية تستحوذ علي 85% تقريبا من السوق العالمية، ومن ثم سيكون لهذه الاتجاهات تأثيرعلي توجهات البحوث العلمية وبخاصة مع تزايد الاحتياجات الغذائية ؟ ومن ثم هناك عدة قضايا أساسية علينا أن نعيها تماما وهي: الاستخدام الرشيد للأراضي والمياه. أن العمل علي تحقيق توازن بين احتياجات الزراعة من المياه وبين احتياجات السكان والصناعة منها هو الذي يدفع علم المحاصيل إلي إعادة بحث أداء الغلات .وقد يؤدي احتساب عائد المحصول علي أساس الوحدة من المياه بدلا من الوحدة من الأراضي، إلي حدوث تحول كبير نحو محاصيل أخري. وهذا ما يحدث في الصين حيث من المتوقع أن يحدث تحول كبير من الأرز إلي القمح خلال أل 25عاما القادمة. كما أن هناك ضرورة لإجراء بحوث بشأن تقليل المخاطر وزيادة الغلات، واستراتيجيات الاقتصاد في استخدام المياه في الري، والعمل علي تحقيق المواءمة بين المحاصيل وبين كميات المياه المحدودة، وما يستتبع ذلك من ضرورة تطوير أصناف جديدة تتحمل الجفاف. ومن الممكن أن تؤدي الثورة في جزئيات الجينات الوراثية إلي العثور علي مزايا نوعية، وبذلك تزيد كفاءة التناسل بالنسبة لبعض الحالات التي كانت تمثل مشاكل تقليدية معقدة أمام الهندسة الزراعية . وتحتاج عملية استنباط محاصيل جديدة إلي وقت طويل. ولكن المجال كبير أمام تحسين المحاصيل الصغيرة ذات الأهمية علي المستوي المحلي. وسوف يحقق السكان، الذين يتعرضون لانعدام الأمن الغذائي، فوائد من جراء توجيه الاهتمام للأصناف متعددة الأغراض مثل الذرة الرفيعة التي تتمتع بإمكانياتها الكبيرة لتكون مصدرا للغذاء والسكر والعلف الحيواني والطاقة الحيوية. ولم يوجه القدر الكافي من البحوث نحو تثبيت النتروجين بيولوجيا، علي الرغم من قدرته علي زيادة أداء المحاصيل البقولية ونقل قدرات تثبيت النتروجين إلي المحاصيل غير البقولية. ويتطلب الأمر أيضا وجود نظرة جديدة لاستخدامات المحاصيل المستديمة بسبب احتياجاتها القليلة من الأسمدة ودورها في المحافظة علي التربة.وينبغي أن تكون مؤسسات البحوث أكثر ارتباطا بالمزارع الحقيقية وليست في وحدات داخل القاهرة وفي عواصم المحافظات .وأخيرا فسوف تسمح التكنولوجيا الحيوية بتحقيق المواءمة الدقيقة بين الصفات الوراثية والظروف البيئية، والاحتياجات الغذائية، وأفضليات السوق.
أزمة لحوم قادمة
والآن علينا العودة إلي الأخذ بالمنهج العلمي مرة أخري في رسم سياستنا الزراعية . وهناك مجموعة من النقاط لابد من مراعاتها ونحن نخطط لرسم خريطتنا الغذائية وخاصة فيما يتعلق بالشق الحيواني لأنه غائب عن الكثيرين ، حيث أن الحوار سواء الهجوم أو الدفاع بشأن هذه التكنولوجيات الزراعية - الغذائية المستجدة مقصورا علي جانبي المحيط الاطلسي دون أن يضم بالضرورة اصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الاغذية أو في هذه التكنولوجيات ، وهم أهل الاقطار النامية وخاصة العرب ، فالحوار يدور فقط بين أطراف في أمريكا وأطراف في أوروبا الغربية دون ان يشارك فيه الأطراف المحتاجة للغذاء.
تنقرض سلالات من الحيوانات الحقلية وأنواع من النباتات بمعدلات مقلقة تهدد الأمن الغذائي علي المدي الطويل وتحرم العالم من القدرة علي مقاومة الأمراض والأحوال الجوية القاسية، حيث أشارت منظمة الاغذية والزراعة (فاو) التابعة للامم المتحدة أن نوعين من حيوانات الحقل تختفي كل أسبوع وأن 1350سلالة تواجه الانقراض. وقالت المنظمة أنه خلال الخمس عشرة سنة الماضية انقرض 300نوع من 6000نوع من الحيوانات الحقلية. وتفيد أحدث المعلومات أن 30% من أنواع حيوانات الزراعة تواجه خطر الاختفاء وأن ذريتها معرضة لفقـدان القـدرة علـي مقاومة أحوال قاسية مثل الأمراض والجفاف والغذاء المتدني الجودة.
وفي هذا الإطار قال ريكاردو كاردلينو خبير الفاو البارز في جينات الحيوانات الحقلية : " بمجرد فقدان مورد جيني فإنه يختفي الي الأبد. ولا نعرف حتي الآن ما نحتاجه في المستقبل من موارد جينية ". كما تختفي سريعا أنواع مختلفة من النبات. وتقدر الفاو بأنه عبر الزمان كانت 10آلاف سلالة من النبات تستخدم لغذاء الإنسان والزراعة. والآن ليس أكثر من 120نوعا تشكل 90% من غذاء الإنسان من المنتجات الزراعية. وتقول منظمة الاغذية والزراعة أن 90% من التنوع الزراعي الذي كان موجودا في القرن العشرين فقد. وأضافت المنطمة أنه نظرا لان احتياجات الانسان الغذائية ستتضاعف في العقود الثلاثة المقبلة نتيجة لزيادة عدد السكان فان التنوع البيولوجي سيصبح ضرورة قصوي. وقال هاردفيج دي هان المدير المساعد بالفاو " التنوع البيولوجي يعزز مقاومة البيئة للتغيرات المناخية ويسهم في مكافحة الجوع ". وخلال العقد الحالي ساعدت الفاو في جمع بيانات من 130دولة حول الثدييات المستأنسة والطيور مثل الماشية والاغنام والماعز والجاموس والخنازير والخيول والارانب والدواجن وحتي النعام. وأكبر تهديد للتنوع الحيواني تصدير حيوانات من الدول المتقدمة الي الدول النامية إذ لا يؤدي الي التهجين فحسب بل استبدال سلالات بأخري.
بالنسبة للغذاء المحور وراثيا يوضح البروفيسور روبرت بالبرج، أستاذ العلوم السياسية والفنون الدولية في جامعة هارفارد (دراسة متشورة في Foreign Affairs) ان الضجة المثارة والخلافات الناشبة حاليا حول هذه النوعيات من المحاصيل أو الغلات أو الاغذية الناجمة عن التكنولوجيات الزراعية ـ الغذائية المتطورة أمور عادية رغم ما تلقاه من ضروب الاثارة في ميديا الاعلام والاتصال. ويشير الي أن كل اختراع جديد وكل ابتكار طرأ علي حياة الإنسانية قوبل بنفس العاصفة من الاحتجاج أو التشكيك أو المقاومة (والمعني بداهة هو ان لكل فعل مستجد رد فعل من المتمسكين بما عهده الناس ودرجوا عليه ووجدوا عليه أباءهم.. وأي جديد هو أمر مجهول طبعا بالنسبة للآخرين والناس اعداء لما يجهلون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق